وما زالت الأخبار تترى بالبشريات في سوح القتال وميدان الشرف وملاحم البطولة وأيام الله، حتى قمتُ خطيباً بين قومي فاخراً أتحدّث كأنّي من أولئك الذين اصطفاهم الله:
وتذكّروا دائماً !
لقد حامت بنا الحُتوف، وضاقت بنا الأحوال والظروف، ولم ينسدل علينا الأمان، لكثرة ما حصدوا من أرواحنا وانتقصوا من أنفسنا وأولادنا وثمراتنا ومَرافقنا.
وإننا نعلم أنّ أقدار الله غير مدفوعة، ولا يغيّرها زيادة عدد، ولا قلّة مدد، ولا قوّة أيْد، ولا شدّة كيد.
ونحن نعلم أن سواعدنا ما قصّرت، وأن خيولنا ما استراحت، وأن عزائمنا ما خارت، وأن قلوبنا ما جبُنت، وأنّ صبرنا ثابتٌ على رباطة جأشٍ، وفضل بأسٍ، وصحّة تدبيرٍ.
واعلموا أنّ ما مضى في تلك الأيام الطوال كان بلاء وتمحيصاً لكم، وأنّ ما سيأتي يكون عقوبةً ونَكالاً لهم وبأساً شديداً بينهم وعليهم.
واعلموا أيضاً أن النصر لم يتأخّر، وإنما لم يحضر وقتُه المقدور له، وأن الله يستدرج الظالمين ويمهلهم حتى يبلغ الكتابُ أجلَه، وتستوفي السننُ شروطَها، ولم يكن لأمر أن يمضي دون إمضاء الله له، ولم تكن لنفسٍ أن تبقى لم يُرد الله لها البقاء.
وتذكّروا:
أنّهم يألمون كما تألمون، وأنّ القرح بجراحاته العميقة وآلامه المُمِضّة قد مسّهم كما مسّنا، وأنّ الجزعَ سيَلْبَسهم، والفجيعةَ ستُدركهم، وانظروا كيف قدّم الله في الآية المفعول به” القومَ” على الفاعل “قرحٌ”، وما في ذلك من تأكيد على عمق وقوع القرح فيهم.
“وتلك الأيام نداولها بين الناس” فقد ناوب ربُّنا علينا في المصائب والمواهب والمَسارّ والمَضارّ ليشفي صدورنا، وليمحّص ما في قلوبنا.
وقد صدقكم اللهُ وعدَه إذ تحسّونهم بإذنه، فلا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين.