حيرة العرب أمام انفلات الغطرسة الإسرائيلية

[[{“value”:”

أيا كانت نتائج مغامرة آلة الحرب الإسرائيلية في الوقت الحاضر، فلا شك أنها تضع كل النظم العربية أمام اختيارات صعبة. لقد تأكد لها تفوق آلة الحرب الإسرائيلية بما تملكه من قدرات تكنولوجية مفاجئة وغير مسبوقة، ونفاذ استخباراتي لكل مواقع أعدائها صبحا ومساء، وأسلحة برية وجوية وبحرية وصواريخ عالية الدقة، وتأييد شبه مطلق من جانب الولايات المتحدة والدول الغربية، وغياب شبه كامل للقوى الدولية الأخرى التي كان يمكن لها أن توازن الدور الأمريكي المختبئ وراء إسرائيل.

كما تأكد لكل الحكام العرب خطأ ما يسمى باستراتيجيات السلام العربية، التي بدأها الرئيس الراحل أنور السادات منذ سبع وأربعين سنة، وكررت الدول العربية الدعوة لها بمطالبة إسرائيل بقبول مبادرة السلام العربية. الحقائق صارخة. استباحة إسرائيل لكل الفضاء العربي تقريبا من سوريا ولبنان والأراضي الفلسطينية قفزا إلى اليمن بلا رادع، وعدم رغبة إسرائيل في إيلاء أي اعتبار لما يسمى بالحقوق العربية. خريطة نتنياهو أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة لم تتضمن حدودا بين إسرائيل والضفة الغربية أو غزة، ورغم أنه بدأ حديثه بادعاء أن إسرائيل تسعى إلى السلام، ولكن السلام الذى يدعو له لا ينطبق على الشعب الفلسطيني!

ماذا تفعل النظم العربية في مواجهة هذا الموقف الجديد؟ دعونا نتصور الخيارات المتاحة لها واحتمالات قبول واحد أو آخر من هذه الخيارات انطلاقا من المصالح الواقعية لهذه النظم. سقطت أوهام تمسك أي من هذه النظم بالعقائد التي قسمت العالم العربي من قبل. لا يوجد من بينها من يتحدث، حتى مجرد الحديث عن القومية العربية كما أنها تنبذ مجرد الإشارة إلى تضامن إسلامي، وإن كانت لا تتورع عن استخدام المنصات التي تعبر عن هذين المنطلقين مثل الجامعة العربية أو منظمة التعاون الإسلامي.

 التهديدات والمكاسب

 اختيارات النظم العربية في هذا الموقف الجديد والخطير والمثير للقلق تتحدد بالتهديدات التي يطرحه عليها، بالمكاسب التي يمكن أن تحصل عليها فيه، وبالحساب الصافي للتهديدات والمخاطر.
أما عن التهديدات فهي واضحة، ولا تقتصر هذه التهديدات على ما أسماه نتنياهو في خطابه الأخير أمام الأمم المتحدة بمحور الشر، والذى يشمل حسب خريطته كلا من  لبنان وسوريا والعراق واليمن وإيران والتي يراها المحرك الرئيسي لهذا المحور. وهذه كلها تلقت وتتلقى ضربات إسرائيلية، وهو توعد بأن قدرات إسرائيل تصل إلى كل مكان في الشرق الأوسط، ولكن التهديدات تمتد إلى بعض تلك الدول التي لونها بالأخضر في خريطته وهى كل من مصر والأردن، فضلا عن سوريا، أي كل الأراضي المجاورة لإسرائيل. لم يتحدث عن مصير الأراضي الفلسطينية في الضفة الغربية وغزة مفترضا أنها ستظل واقعة تحت السيطرة الإسرائيلية، ومادام لا يقبل بحل الدولتين ولا بالدولة الواحدة التي تضم الشعبين الفلسطيني والإسرائيلي على قدم المساواة، فليس أمام الشعب الفلسطيني سوى التهجير أو الإبادة الجماعية أو تغيير معتقداته عن إسرائيل ليتحول إلى حبها والإعجاب بها بعد أن يتخلى عن الأفكار “الراديكالية” التي زرعتها في عقله منظمات مثل حماس أو حتى السلطة الفلسطينية، وذلك بحسب رؤيته لمستقبل غزة بعد ما يحلم به من انتهاء المقاومة المسلحة لآلة الحرب الإسرائيلية فيها.

التهديد يطول مصر والأردن. طالما شدد القادة الإسرائيليون على أن المكان الآمن للفلسطينيين والفلسطينيات في غزة هو سيناء في مصر، وتجاهلت القوات الإسرائيلية اتفاقات عديدة مع مصر وقوى أوروبية واستقرت على محور صلاح الدين واعتبرت حكومة نتنياهو البقاء فيه إلى الأبد شرطا للوصول إلى اتفاق للتهدئة في غزة، كما دمرت القوات الإسرائيلية معبر رفح من الجانب الفلسطيني على بعد أمتار قليلة من جانبه المصري، ورغم تمسك الحكومة المصرية باتفاق السلام مع إسرائيل، إلا أن نتنياهو لم يتردد في اتهام الحكومة المصرية بأنها تستخدم أنفاقا تحت الأرض على حدودها مع غزة لتهريب السلاح والمقاتلين إلى حماس على الرغم من العداوة القديمة بين السلطات المصرية وحركة المقاومة الإسلامية المعروفة بحماس.

كما أن التهديدات تنال الأردن، ليس فقط بحسب كونه راعيا للمقدسات الإسلامية في القدس، ولكن لأن خطر التهديد بتهجير الشعب الفلسطيني يمتد إلى الأردن كذلك، فهو من وجهة نظر قادة إسرائيل المتطرفين هو الوطن البديل للشعب الفلسطيني.

 الخيارات المتاحة أمام النظم العربية

ماذا تفعل نظم الدول المجاورة لإسرائيل أمام هذا الموقف؟ حتى الآن اكتفت بالرفض والإدانة في جميع المحافل الدولية، وكذلك بالاستعانة بمن تعتبره شريكها الأمريكي الاستراتيجي لدعوته لممارسة الضغط على إسرائيل حتى توقف ممارساتها الطاردة للفلسطينيين والفلسطينيات سواء في غزة أو في الضفة الغربية. ولكن اتضح لها أن “الشريك الأمريكي” هو في الحقيقة شريك منافق في الحاضر والمستقبل يمد إسرائيل بأشد الأسلحة فتكا بينما يشترك في مفاوضات الرباعية بدعوى السعي لتهدئة تقترح إسرائيل بنودها ثم تنكص عنها.

دونالد ترامب المرشح الرئاسي عن الحزب الجمهوري يرى أن إسرائيل حجمها صغير، ويود لو كان حجمها أكبر، وهو ما يعنى ترحيبه بتوسيع حدودها على حساب الشعب الفلسطيني وجيرانها. كامالا هاريس، مرشحة الحزب الديمقراطي، قد تملك نوايا طيبة، ولكن من المشكوك فيه كثيرا أن يقبل اللوبي المؤيد لإسرائيل في الكونجرس وفى أجهزة الإدارة الأمريكية ذاتها إلا أن تكون نسخة أخرى من جوزيف بايدن الذى جعلت منه حكومة نتانياهو مادة مثيرة للضحك.

الاختيار صعب أمام كل النظم العربية المحيطة بإسرائيل. بكل تأكيد لن ينضم أي منها إلى محور المقاومة، فهي لن تقبل أن تخاطر بأن تتعرض لما لاقاه محور المقاومة سواء في لبنان أو سوريا، بل والضغوط قوية على سوريا بفك ارتباطها بالنظام الإيراني والخروج من هذا المحور. لذلك لإبعاد المخاطر ستتمسك تلك الأطراف بما فيها السلطة الفلسطينية بمعاهدات السلام التي وقعتها مع إسرائيل، أملا منها أن تعزف الحكومة الإسرائيلية عن دعوات التهجير وتستجيب لمطالب المجتمع الدولي بهدنة تسمح فيما بعد بتسوية أشمل، وذلك دون قناعة منها بأن إسرائيل سوف تغير من مسلكها، ولكن التمسك باتفاقات السلام قد يكون كما تتصوره هذه الأنظمة السبيل للحد من المطامع الإسرائيلية، بل وربما تفكر بعضها في الاستفادة من المشروعات التي تدعو لها إسرائيل في إطار ما يسميه نتانياهو بمحور النعمة.

أما الدول العربية الأخرى والداخلة فى هذا المحور، وهى تحديدا دول الخليج ، فهى أيضا أمام اختيارات دقيقة؛ استمرار العدوان الإسرائيلى يهدد باتساع محور المقاومة فى الوطن العربى، واحتمال أن يكون له مؤيدوه داخل دولها. علاقات بعضها مع إسرائيل قد يؤدى إلى زيادة التوتر مع إيران، والذى يمكن أن ينعكس في هجمات على منشآتها النفطية ومدنها على النحو الذى عرفته منذ سنوات قليلة قبل التهدئة مع حزب أنصار الله في اليمن، والمصالحة السعودية الإيرانية.

لكن فكرة التطبيع مع إسرائيل للحد من النفوذ الإيراني، وهى ثمن ضروري للحصول على موافقة الحكومة الأمريكية على اتفاق أمنى مع السعودية، لها بكل تأكيد أنصارها، كما تكشف عن ذلك ضمنيا تغطية بعض القنوات الخليجية  للحرب التي تشنها إسرائيل في الأراضي الفلسطينية وفى لبنان. ومن ناحية أخرى فربما تكون هناك قطاعات بين صناع القرار في هذه الدول انبهرت بقدرات إسرائيل الاستخباراتية والتكنولوجية، تأمل في الاستفادة منها لمقاومة خصومها في الداخل والخارج، كما أن هناك إغراء المشروعات الاقتصادية الطموحة في توفير بديل للتجارة بين شرق آسيا وأوروبا، يمثل بديلا لمشروع الحزام والطريق الصيني، ويمر بالهند عابرا دول الخليج إلى البحر الأبيض، عابرا الأردن وإسرائيل ومتجاهلا قناة السويس.

بالنسبة للدول العربية الأخرى خصوصا في شمال إفريقيا فليس من المرجح أن ينضم أي منها إلى محور المقاومة، وبعضها مدعو للانضمام إلى «محور النعمة» الذى دعا له نتنياهو. وحسابات  نظام المغرب هي قريبة من حسابات دول الخليج، كما ظهر السودان في خريطة نتانياهو مظللا باللون الأخضر، وقد قبلت حكومته العسكرية بالتطبيع مع إسرائيل.

هل من مستقبل لمحور المقاومة؟

 لكن هذين الاختيارين لن ينهيا العدوانية الإسرائيلية وخططها التوسعية، بل هما يتضمنان التعايش مع المشروع الصهيوني في قمة تطرفه، ولذلك هناك قراءة أخرى لحدود القوة الإسرائيلية تلهم محور المقاومة، وقد يكون لها أنصارها خارج النظم العربية الحاكمة. ترفض هذه القراءة تقسيم الوطن العربي إلى معسكرين كما يدعى نتانياهو، فأضرار هذا المشروع تقع على الجميع، فضلا عن ذلك فهذا المشروع يحمل بذور هزيمته، فعلى الرغم من التفوق الاستخباراتي والتكنولوجي لإسرائيل والتأييد الفعال لها من جانب كبرى دول حلف الأطلنطي، إلا أنها لم تحرز نصرا في أي من مواجهاتها الحربية الثلاث.

المقاومة مستمرة في غزة وفى جنوب لبنان، وسترد إيران على أي ضربات إسرائيلية قادمة. والمشروع الصهيوني هو مشروع عنصري بامتياز، يحتقر العرب مثلما كان المستعمر الأبيض في الأمريكيتين وفى جنوب إفريقيا يحتقر السكان الأصليين، ولا يرى فيمن أبدى استعداده للتعاون معه سوى وكيل له في علاقات الاستغلال الواسعة التي يديرها، كما أن نجاح الاستعمار الاستيطاني الذى تمثل إسرائيل نموذجا متأخرا له رهن بالقضاء على السكان المحليين الذين يقاومونه، وهو بكل البساطة مستحيل.

ربما تلهم هذه القراءة المغايرة الفئات المثقفة وقطاعات من النخبة الحكمة في الدول العربية للتنبه لحقيقة هذا المشروع والسعي لتوسيع نطاق مقاومته.. وهذا يقتضى جهدا فكريا وسياسيا جماعيا نتمنى أن نشهد بداية قريبة له.

“}]] 

المحتوى ذو الصلة