بالإضافةِ إلى عاملِ المباغتةِ، الذي طبعَ عمليَّة “طوفان الأقصى”، هناك تفاصيل أخرى، من المفيد الوقوف عندَها، لمحاولة فهم الوحشيّة التي أظهرتها إسرائيل في ردّ فعلها ضد غزّة، وفهم الدعم غير المشروط الذي لقيته من أميركا والحلفاء الغربيّين، لدرجة تبرير الدوس على القانون الدوليّ، والتغطية على جرائم الحرب الإسرائيليّة بمناورات سياسيّة وإعلامية مفضوحة.
كتبَ كثيرون، أنَّ نجاح المقاومة الفلسطينيّة، يوم 7 أكتوبر 2023- في اختراق كلّ المنظومات الدفاعيّة لإسرائيل، والتوغّل داخل مستوطنات غِلاف غزّة، وقتل وأسْر عدد كبير من جنود الاحتلال، في ملحمة غير مسبوقة في تاريخ الصراع العربي الإسرائيليّ- شكّل ضربة قاسية لأسطورة الجيش الذي لا يُقهر، ومرّغَ هيبته -التي استأسد بها في المنطقة لعقود- في الوحل؛ لذا فقد ردّ بكلّ هذه العشوائية والدمويّة.
غيرَ أنَّ هناك تفاصيل إضافية تفسّر وحشيّة إسرائيل في ردّ فعلها على هذه العمليّة، وإن كانت صفة الوحشيّة ملازمة لهذا الكيان، عليها قام في البدء، وبها غرزَ دولته، وبها صنع لنفسه صورة الدولة القدرية التي تصعب مواجهتها أو مجاراة قوتها.
من هذه التفاصيل، ما يتعلّق بشخص بنيامين نتنياهو، وبما وصلت إليه إسرائيل من مستوى في اختيار من يقودها، ويرسُم مسارها، ويرتّب أولوياتها.
يصنّف نتنياهو واحدًا من أشرس السياسيّين، إن لم يكن أكثرهم تطرفًا في تصوّره لإسرائيل باعتبارها دولة اليهود، وقد أكّد في كتابه: “مكان تحت الشمس” عام 1993، تبنّيه أطروحة تنطلق من أنَّ أمن إسرائيل هو العامل الوحيد الذي يضمن بقاءَها، وهو أولى من باقي المجالات، بما فيها مجال السياسة الذي أطّر عملية السلام، وَفق ما ورد في كتابه.
ما لا يريده الغرب هو أن يترسخ في الأذهان، أن انتصار 7 أكتوبر 2023، كانت وراؤه قدرات ليس هو مصدرها، ومخططون ومنفذون لا علاقة لهم بنظرياته وبثقافته، بل لهم قيم أخرى سامية برزت للعالم لتنسف حملات الشيطنة التي مارسها الغرب ولا يزال
وعُرف عن نتنياهو رفضه كل الاتفاقيات التي انطلقت من شعار الأرض مقابل السلام؛ لأنَّ أمن إسرائيل -حسَب كتابه- مرتبطٌ بالأرض التي أُخضعت بالعنف والقوَّة، فاختار شعار: “الأمن مقابل الأمن”، رافضًا التفريط في أيّ مساحة مهما كانت صغيرة، ورافضًا المفاوضات مع الفلسطينيين، والأردن، ومصر.
في كتابه، نجده كذلك يصف العرب بأنّهم أمّة من الكسالى لا فائدة منها، أبعد ما تكون عن الحضارة، متلوّنة لا يوثق بها، ولا ينفع معها إلا القوّة، مع أوصاف أخرى تعكس العنصرية التي تحكم رؤيته للعرب، ورؤيته بأن السلام معهم يمرّ ضرورة عبر الحسم بالقوّة.
وهو يؤكد في كتابه، أنّ العمق الأمنيّ لإسرائيل يفرض عدم التخلّي عن الضفة الغربية وهضبة الجولان، وأهمية التطبيع مع الدول العربية، ولا سيما النفطية، ويرى أنّ إيران تشكل تهديدًا لأمن الدولة الصهيونية، موصيًا بمحاصرتها والعمل على تغييرها من الداخل.
هذه أهم خلاصات كتاب نتنياهو، الذي على أساسه تم اختياره زعيمًا لحزب الليكود المتشدّد، ثم رئيسًا للوزراء سنة 1996، بعد ثلاث سنوات من صدوره، وبقي في منصبه حوالي 17 سنة، منها 12 سنة متتالية، محققًا زمنًا قياسيًا في المنصب منذ تأسيس هذا الكيان، ومتفوقًا حتّى على مؤسسيه الذين أشرفوا على المجازر والتهجير بحقّ الشعب الفلسطينيّ.
وهذا يعني- رغم المظاهرات التي تخرج ضدّه- أن أغلبية إسرائيلية تبنَّت عقيدة نتنياهو السياسية وأفكاره وتصوره للحفاظ على دولتِهم، واعتبروه بطلهم القومي، والنموذج القادر على سحق من ينغّصون حياتهم، ويضطرهم للعيش على وقع “الخوف الاستراتيجي”، الخوف على الحياة، والخوف من زوال الدولة.
ليس سهلًا على الإسرائيليين- شعبا ونخبًا، وقد أمَّنوا نتنياهو على حياتهم ودولتهم- أن يستيقظوا على وقع عمليّة للمقاومة الفلسطينية، أظهرت أن أحلامهم وأمانيهم لم تكن إلا سرابًا وعِهْنًا منفوشًا.
ومن الطبيعي- وقد اختارت إسرائيل أكثر ساستها عنفًا وتطرفًا لقيادتها- أن نرى ما شاهده العالم من ردّ فعل وحشيّ، يرقى إلى الإبادة الجماعيّة، التي قد تكون أحد السيناريوهات التي يدرسونها بالفعل للخروج من صدمة “طوفان الأقصى”.
فشل هذا النموذج- الذي اختارته إسرائيل لقيادتها- يدخلها في دُوّامة سياسية قد يستغرق الخروج منها وقتًا طويلًا، وهذا ليس في صالح إسرائيل ولا الغرب الذي يرعاها ويوفر لها الغطاء السياسيّ والدبلوماسيّ، ولا سيما في ضوء المخاض الذي تمرّ به العلاقات الدولية، بما يفرزه من موازين قوى مختلفة عن تلك التي كانت في أعقاب الحرب العالميّة الثانية، ووفرت شروطَ قيام وبقاء دولة إسرائيل.
لهذا كان من الضروري أن يتدخل الغرب بزعامة أميركا، ليدعم إسرائيل باعتبارها، بيضته التي فقست في “الشرق الأوسط” و”سفيرته” في المنطقة، والنموذج الذي يسوّقه لديمقراطيته المزعومة، وللتمدّن والقوّة والعلم، وكل مقوّمات صورة الدولة التي لا تُقهر. وقد سارع زعماؤه إلى عاصمة الكيان، وحرّكوا قواتهم الدبلوماسيّة والعسكريّة، في مشهد غير مسبوق يستدعي للأذهان، الحملات الصليبيّة.
لقد فقد الغرب توازنَه، موفرًا دعمًا عسكريًا وسياسيًا ودبلوماسيًا لعدوان إسرائيلي يقتل المدنيين الأبرياء، متجاهلًا القانون الدوليَّ والمؤسسات الدولية- على ما يعتريهما من وَهْن- والإعلام الذي ينقل الصور على الهواء، ونسي كذلك أنه مدّعي ريادة العالم نحو التحضّر، ومخترع نظريات تنظيم المجتمعات، ومنبع القيم والأفكار، وصانع الثورات، والمدافع الأوّل عن الحقوق والحريات، فبرّر قادته- بلا حياء- قصف البيوت ودور العبادة والمستشفيات والمدارس، ومارسوا حملات التضليل والترهيب، لتظل روايتهم المعتمدة وحدَها.
الأمر أكبر من الدفاع عن المصالح الاقتصاديّة والسياسيّة، فالعنف والصفاقة- اللذان أظهرتهما الولايات المتحدة الأمريكية، ومن تبعها بظلم واستكبار- يحكيان خلفيات وتفاصيل أخرى.
هذه التفاصيل تتعلّق بالخوف من انهيار “النموذج الغربيّ” الذي تطلب إرساؤه عقودًا وقرونًا من الزمن، وأُبيدت من أجله شعوبٌ وأجيال.
فالغربُ يعتبرُ انتصارُ حركة مقاومة صغيرة- تنتمي لأمّة لطالما اعتبرها غير متحضّرة، على دولته النموذجيّة التي يرعاها في المنطقة- هزيمةً مباشرةً له، ليست عسكرية وأمنية فحسْب، بل هزيمة حضارية، وهو ما لا يمكن أن يقبل به.
انتصار المقاومة الفلسطينية الإسلامية، على إسرائيل سليلة النموذج الغربي، يعني أن تلك الدولة المصطنعة لم تعد دولة نموذجية، والنموذج سيكون هو المقاومة. كما أن انتصارها سيظهر للشعوب العربية والإسلامية، بل والعالمية، أن هزيمة إسرائيل وعموم الغرب لا تزال ممكنة، وستُعْقد المقارنات بين تلك المقاومة المنتمية لأمة لطالما وُصفت بالإرهاب والتخلف، وبين إسرائيل القوية المدعومة من غرب متحضر متفوق في كل المجالات.
ما لا يريده الغرب هو أن يترسخ في الأذهان، أن انتصار 7 أكتوبر 2023، كانت وراؤه قدرات ليس هو مصدرها، ومخططون ومنفذون لا علاقة لهم بنظرياته وثقافته، بل لهم قيم أخرى برزت للعالم في طريقة تعاملهم مع الرهائن المدنيين، لا سيما النساء والأطفال والمسنّين، لتنسف حملات الشيطنة والتضليل الإعلامي التي مارسها الغرب ولا يزال، خلال هذا العدوان أو قبله.
هذه تفاصيل يبدو من المفيد استحضارها في سياق متابعة ما يجري، لفهم وحشيّة العدوان الإسرائيلي والتواطؤ الغربي، الذي يخوض حربًا، يؤطرها بمعطيات التاريخ، ولكنه بسلوكه المتوتر يعترف بانتصار المقاومة من حيث يريد نفيه، ويفتح بدعمه غير المشروط لإسرائيل، عيون كل الشعوب- التي ظن أنه دكّ وعيها بحوافر أنظمة الاستبداد التي يمولها- على حقيقته، ويدفعها دفعًا إلى النماذج الأخرى.