نسمع هذه الأيام موقفاً متفائلاً من بعض الفلسطينيين والعرب إزاء الوضع الاستراتيجي لـ”إسرائيل”. يذهب هذا التفاؤل في أقصاه إلى اعتقاد إمكان الانسحاب الإسرائيلي من مناطق في الضفّة الغربية، وإذا كان هذا التفاؤل مُقَدَّراً من جهة الإيمان المستمرّ بإمكان وضع حدّ للوجود الصهيوني في بلادنا، فإنّه لا ينبغي الاسترسال مع تصوّرات كهذه، قد لا تحسن التوفيق اللازم بين هذا الإيمان الضروري، والصحيح في الوقت نفسه، وبين الوقائع كما هي على الأرض، لأنّ ذلك ضرب من الخديعة غير المقصودة، ومسلك نحو مآل من اليأس الناجم عن رفع التوقّعات فوق ما تحتمله تلك الوقائع.
هل هذا التفاؤل متعدّد المستويات، باعثه ذلك الإيمان الذي لا ينكسر في نفوس معاندي هذا الوجود الصهيوني، ورافضي التسليم له، مهما علا في الأرض، أم أنّ معطيات ملموسة باتت تعزّز إيماناً كهذا؟! الواقع أنه لا يمكن إنكار التحوّلات المعاكسة للمسار الصهيوني في بلادنا، إلا بقدر كبير من المكابرة، وبالضرورة بعد اليأس من إمكان حسم الصراع معه، والتسليم النهائي له.
بالتأكيد تعزّز ذلك التفاؤل، بعد الانقسام العميق الذي يشقّ الحالة الصهيونية بنى ومؤسسات ومجتمعاً، مثلاً في احتفالات “يوم الاستقلال”، وفي تفاصيل بالغة الدلالة، بات العلم الإسرائيلي، بنحو ما، شارة في بعض الأحداث على الانقسام الصهيوني، بعدما ظلّ دائماً شارة جامعة للحالة الصهيونية بتنوّعها الواسع. في الحدّ الأدنى لم يعدّ العلم الإسرائيلي معبّراً بالضرورة عن وحدة صهيونية، بل قد يصير محلّ خلاف إذا ما رفع في سياق احتجاجي، وبما يتمدّد إلى جوامع صلبة أخرى، كالجيش الإسرائيلي وقتلاه. فإذا كان العلم الشارة الجامعة، فإنّ الجيش وعاء الصهر الأضخم لتجنيس المجتمع، وقتلاه المعبّر الأبرز عن المشروع الصهيوني. أخيراً يعترض أنصار اليمين الحاكم على رفع العلم على قبور قتلى الجيش، لكون ذلك، بحسبهم، فعلاً احتجاجيّاً للمعارضة، كما يشتبك أهالي القتلى فيما بينهم، لاختلافهم حول حضور الرموز السياسية من جانبي المشهد السياسي، في المقابر العسكرية في هذه الاحتفالات.
الموقف تاريخي بالتأكيد، فيما يتعلق بقضايا مرتبطة عضويّاً بوضعية الجيش وعلاقة المجتمع به، فالنقاش حول إعفاء الحريديم من الخدمة العسكرية، سيأخذ منحى أكثر عمقاً مع الأزمة الحالية، والموقف المعارض لـ”إصلاحات نتنياهو” القضائية الذي أخذته أوساط أكثر نخبوية في بنية الجيش، لم يكن موقفاً عابراً. بقدر ما يكشف ذلك كله عن الصورة الدقيقة لطبيعة التكوين الصهيوني.
بيد أنّ الوقوف عند الأزمة الإسرائيلية الداخلية، وكأنّها الظرف الراهن كلّه، خطأ محض، فما هو أهمّ هو الصمود الفلسطيني، والذي بدوره يعمّق بمحضه الأزمة الإسرائيلية، ويربك حسابات النخبة الإسرائيلية، في الوسط السياسي، وفي البنى العميقة والأجهزة الاستراتيجية للدولة، وهو الأمر الذي اتضح أخيراً في أحداث المسجد الأقصى وإطلاق الصواريخ من غزة ولبنان وسلسلة العمليات في الضفة الغربية.
لا يمكن القول إنّ الإسرائيلي وقف عاجزاً في مواجهة ذلك كلّه، أو أنّه قد قرّر الكفّ عن الفعل والمبادرة، ولكن ما يمكن قوله إنه أكثر ارتباكاً وأقل عزماً وتصميماً، وإذا كان هذا أمراً ملاحظاً فهو غير كاف للاطمئنان، فالقلق الوجودي الإسرائيلي المزمن يتشافى بالتخدير بترميم التفوق الأمني، واستظهار العزم والتصميم من جديد، مما يعني أنّ المواجهات الأكبر والأوسع آتية في وقت ما لا محالة.
لكن الحاصل أنّ الصمود الفلسطيني، هو العامل المركزي في المشهد برمّته، الصمود بكل ما يكتنزه من معان وصور، وعلى طول تاريخ القضية الفلسطينية، فلو أنّ هذا الفلسطيني ذُوّب في آلة الأسرلة، لما كان ثمّة أيّ بعد وجودي أصلاً للأزمة الإسرائيلية الداخلية، طالما أنّه لا يوجد فلسطيني يملك دافع المقاومة، من التمسك بالذات والهوية والحق والسردية، مروراً بالهتاف وصولاً للقتال.
فالانقسامات الداخلية الحاصلة دائماً في بلاد العالم، لا تنعكس قلقاً وجوديّاً إلا في “إسرائيل”، هذه المستوطنة المعسكرة، الواعية تماماً إلى كونها غلطة بلا أيّ مبرر في جغرافيا لا يمكنها احتمالها أبد الدهر. فلو استكان الفلسطيني وخضع وسلّم، ماذا يبقى بعدُ من قيمة استثنائية لأزمة إسرائيلية داخلية، أو من تحوّلات إقليمية أو نقد دوليّ لـ”إسرائيل”.
ما ينبغي الوعي به، حين الحديث عن الصمود، هو الجوهر المركّب لهذا المعنى، من كونه وسيلة وغاية في الوقت نفسه، إذ هو مطلوب ولا بدّ منه، لأنّ الهدف هو تفكيك الكيان الصهيوني وتحرير فلسطين، وهذا الهدف لا يمكن الوصول إليه دون الصمود، ولكن لأنّ هذا الهدف صعب، بقدر الإيمان الصحيح، لا بإمكانه فحسب بل وبحتميته، فإنّ الصمود هو الممكن الذي يصير غاية طوال خطّ الصراع ما دام الهدف النهائي لم يزل في غير مرمى النظر بعد. بكلمة أوضح، إنّ عدم إنجاز الهدف النهائي، أو عدم وصول المحطات الكفاحية العليا للفلسطينيين كالثورات والانتفاضات والحروب والهبّات والمواجهات، إلى نتائج سياسية ملموسة، لا يعني الكفّ عن الصمود.
ما المقصود بالصمود والحالة هذه؟ هل هو مجرد الإيمان الوجداني بالقضية؟ المطالبة الناعمة بالحقوق؟ التحوّل في الخطاب بالبحث عن مبادرات أو مقترحات أو نظريات سياسية جديدة؟
إنّ التحوّلات نحو ذلك كلّه، كانت تعبيراً عن قدر ما من تآكل الصمود، واستبعاد الهدف النهائي. وإذا كنّا نتحدث اليوم عن أزمة إسرائيلية، فإنّ التراجع عن المنطلقات الأولى والدخول على خطّ المبادرات وفي مشاريع التسوية، انتهى إلى انقسام فلسطيني، وسلطة محكومة بتفوق الاحتلال؛ تُمثّل أكبر عقبة ثورية أمام الفلسطينيين، وتمدّد ذلك في صورة جسر صهيوني إلى العالم والبلاد العربية، حتى لم تكن الخيارات الفلسطينية في أيّ يوم بهذا القدر من الالتباس، ولا كان ظهره في أيّ يوم بهذا القدر من الانكشاف. يمكن قول الشيء نفسه عمّن يكشفون عن يأسهم بالعودة إلى حديث الدولة الواحدة، دون أن يلاحظوا اليوم أنّ “إسرائيل” باتت محلّ شكّ في أن تكون دولة واحدة للصهاينة أنفسهم، فضلاً عن مليشيا “الحرس الوطني” التي يجري الحديث عنها لقمع أهلنا في الأراضي المحتلة عام 1948.
في مقابل ذلك، يتلمّس الفلسطينيون طريقهم من جديد، في استعادة للمبادرة النضالية، وبلورة جديدة للصمود. يمكن الحديث عن ذلك منذ حرب العام 2014 و”هبّة القدس” عام 2015، إلا أنّ التحول الأوسع جرى بعد معركة “سيف القدس” 2021. هذه المعركة تستحق فحصاً قائماً بنفسه عن موقعها حتى في التحولات الإقليمية إزاء “إسرائيل”، لا سيما وأنّها قد جاءت بعد موجة تطبيع تحالفي عربيّ معها غير مسبوقة لا شكلاً ولا مضموناً.
لا تجري هذه الاستعادة للنضال والبلورة الجديدة للصمود في ظرف من الإجماع الفلسطيني، وهو الأمر الذي يجعل المشهدية النضالية تتسم بالكثير من العناصر الهجينة المتناقضة. لكن ما جرى حتى الآن مفيد في إعادة تثبيت الحقائق، ومهم بالنظر إلى العقبات الضخمة، وفرصة للتطوير والاستثمار والتعظيم.