في مقالي بعنوان (يا أهل غزة.. لا تعبروا الحدود) قبل أكثر من شهر؛ ناشدتُ أبناء الشعب الفلسطيني في قطاع غزة، بألا يستجيبوا لنداءات الكيان الصهيوني المتكررة بالنزوح من مناطقهم إلى جنوب القطاع باتجاه الحدود مع مصر، وفي حال لاحقتهم أدوات القتل الصهيونية إلى هناك؛ ناشدتُهم ألا يعبروا الحدود إلى مصر مهما كان الثمن؛ لأنه سيكون عبورًا بلا عودة.
الأسبوع الماضي، جاءت تحذيرات السيدة “باولا غافيريا بيتانكور” -مقررة الأمم المتحدة الخاصة المعنية بحقوق الإنسان للنازحين داخليًا- لتدق الجرس عاليًا، وتقرع ناقوس الخطر، وتصرخ في وجوه كافة الجهات المسؤولة المعنية الأممية وغير الأممية، لتتحرك في أسرع وقت؛ لوقف الجريمة الكبرى التي يقوم مجلس الحرب الصهيوني بقيادة رئيس وزرائه بنيامين نتنياهو، حين قالت: “إن إسرائيل تعمل على طرد السكان المدنيين من غزة”، فهل تتحرك الجهات المسؤولة المعنية فلسطينيًا وعربيًا وإسلاميًا ودوليًا قبل فوات الأوان، تحرُّكًا لا يقتصر على بيانات الرفض والإدانة والشجب والتنديد.
مقررة الأمم المتحدة الخاصة بحقوق الإنسان: إن الاستنتاج المنطقي الوحيد هو أن العملية العسكرية الإسرائيلية في غزة، تهدف إلى ترحيل غالبية السكان المدنيين بشكل جماعي، فقد قام الجيش الإسرائيلي بتسوية المساكن والبنية التحتية في غزة بالأرض، وأحبط أي احتمالات واقعية لعودة السكان النازحين إلى ديارهم
أين سيذهبون؟
حذَّرت المقررة الأممية الخاصة المعنية “بيتانكور”، بكل وضوح من أن الكيان الصهيوني “يسعى إلى تغيير تركيبة سكان غزة بشكل دائم، من خلال أوامر إجلاء متزايدة باستمرار، وهجمات واسعة النطاق ومنهجية؛ على المدنيين والبنية التحتية المدنية في المناطق الجنوبية من القطاع المحاصر”.
وشدّدت على أن الكيان الصهيوني “نكث بوعود السلامة التي قطعها لأولئك الذين امتثلوا لأمره بإخلاء شمال غزة قبل شهرين” متسائلة: إلى أين سيغادر النازحون الذين نزحوا من قبل؟ وأين سيذهبون غدًا؟
وقد جاءت تحذيرات بيتانكور هذه على إثر قيام الجيش الصهيوني في الأسبوع الماضي بإلقاء المزيد من المنشورات التي تدعو أهالي المغازي والبريج والنصيرات وسط قطاع غزة إلى النزوح جنوبًا، وإلا فإنهم يتحملون مسؤولية ما سيحدث لهم بعد ذلك من دمار وقتل. وقد أعقب ذلك نزوح الآلاف من منازلهم باتجاه الجنوب؛ هربًا من القتل تحت القصف أو القنص، رغم مرارة رحلة النزوح، وما تنطوي عليه من إذلال واضطهاد ومخاطر ومعاناة.
وهذا ما دفع المقررة الخاصة بيتانكور إلى القول: “إن الاستنتاج المنطقي الوحيد هو أن العملية العسكرية الإسرائيلية في غزة تهدف إلى ترحيل غالبية السكان المدنيين بشكل جماعي”، وأوضحت أن هذا الاستنتاج مبني على أن الجيش الصهيوني قام بتسوية المساكن والبنية التحتية في غزة بالأرض، مما أحبط أي احتمالات واقعية لعودة سكان غزة النازحين إلى ديارهم.
مشيرة إلى أن الأفراد الذين لا يمتثلون لأوامر الإجلاء لا يفقدون حقهم في الحماية بموجب القانون الدولي، الذي فشلت إسرائيل في الوفاء بالتزاماتها تجاهه، من حيث ضمان ألا ينتهك النزوح حقوق المتضررين في الحياة والكرامة والحرية والأمن، وضمان تمتع النازحين داخليًا بمستوى معيشي لائق، والحصول على المساعدات الإنسانية، وقد قامت بـ”استهداف المستشفيات والمدارس والملاجئ عمدًا، دون أدلة موثوقة على أنها أهداف عسكرية، أو هاجمتها دون اتخاذ احتياطات لتقليل الخسائر العرضية في الأرواح أو الإصابات بين المدنيين”.
إن سكوت الدول العربية والإسلامية على جرائم الكيان الصهيوني في قطاع غزة واقتصارها على مواقف خطابية، تحت ذرائع المصالح الوطنية الخاصة والتزاماتها الإقليمية والدولية، يعني اشتراكها في هذه الجرائم، وموافقتها الضمنية على تفريغ قطاع غزة وتهجير الشعب الفلسطيني منه
خطوات عربية وإسلامية عملية
حثّت المقررة الخاصة بيتانكور المجتمع الدولي، على الاعتراف بتجاهل إسرائيل الصارخ للقانون الدولي، وقانون حقوق الإنسان، وأوضحت أنّ أوامر الإخلاء التي يصدرها الجيش الإسرائيلي غير دقيقة ومتناقضة، عرّضت المدنيين لهجمات عشوائية أسفرت عن مقتل ما يزيد على 20 ألفًا من الفلسطينيين، وإصابة أكثر من 56 ألفًا آخرين.
كما شددت على أنه لا يوجد مكان آمن في غزة، وكررت مخاوفها من أن تصرفات إسرائيل ترقى إلى جرائم حرب، تتمثل في العقاب الجماعي والترحيل القسري، ودعت إسرائيل إلى الوقف الدائم لإطلاق النار، والسماح بمرور المساعدات دون قيود، وإعطاء الأولوية للحوار؛ لضمان الإفراج الآمن عن الرهائن.
وتعتبر المقررة الخاصة، السيدة “باولا غافيريا بيتانكور”، واحدة من المقررين الخاصين ضمن ما يعرف بالإجراءات الخاصة لمجلس حقوق الإنسان في الأمم المتحدة، وهي أكبر هيئة من الخبراء المستقلين في نظام الأمم المتحدة لحقوق الإنسان، الذين يعملون كأفراد متطوعين لا يتقاضون أي أجر، وهم مستقلون عن أي حكومة أو منظمة.
وهذا يعطي لتحذيرات بيتانكور قوّة وصدقية عاليتين تتطلبان التوقف عن إصدار بيانات الشجب والتنديد الأحادية والثنائية والجماعية، والقيام بإجراءات تنفيذية عاجلة تجبر التحالف الصهيو-أميركي على الرجوع عن مخطط تهجير الشعب الفلسطيني من قطاع غزة، وتضمن تطبيق القانون الدولي والإنساني الخاص بحماية المدنيين في ظروف الحرب.
إن كل يوم يمر على الشعب الفلسطيني في قطاع غزة والضفة الغربية، يفقد فيه مئات القتلى والجرحى، ولا يلوح في الأفق حتى الآن؛ أي مؤشرات لوقف هذه المأساة الإنسانية الدامية.
التقى الزعيمان المصري والأردني يوم الأربعاء الماضي في القاهرة، وأعلنا في بيان مشترك رفضهما الكامل لجميع محاولات تصفية القضية الفلسطينية وتهجير الفلسطينيين قسرًا في الضفة الغربية وقطاع غزة، وهو الموقف ذاته الذي عبرت عنه الدول العربية والإسلامية مرارًا منذ بدء حرب الإبادة الجماعية على قطاع غزة التي مضى عليها أكثر من 80 يومًا.
لقد آن الأوان لاتخاذ إجراءات تنفيذية فورية لفرض وقف إطلاق النار، وإنهاء هذه المأساة الإنسانية، وهذه المهزلة التاريخية، التي يعجز العالم عن إسدال الستار عليها؛ بسبب عُنْجُهية الكيان الصهيوني وتمرده، والدعم المطلق الذي يتمتع به من الإدارة الأميركية، بحيث يجعله يتعالى على القانون الدولي والإنساني، وعلى الأنظمة الأممية والدولية، ويتجاهل بكل رعونة وصلافة كافة المناشدات والقرارات والتوصيات التي تدعو إلى الوقف الفوري لإطلاق النار.
إن سكوت الدول العربية والإسلامية على جرائم الكيان الصهيوني في قطاع غزة – واقتصارها على مواقف خطابية وبيانات توثيقية، تحت ذرائع المصالح الوطنية الخاصة والتزاماتها الإقليمية والدولية، أو غيرها من الذرائع، وعجزها عن اتخاذ خطوات تنفيذية عملية لمواجهة التمرد الصهيوني المتوحّش، وهذا التواطؤ الأميركي الإجرامي الذي يبرر له ما يقوم به من همجية وعدوان- يعني اشتراك الدول العربية والإسلامية في هذه الجرائم، وموافقتها الضمنية على تفريغ قطاع غزة، وتهجير الشعب الفلسطيني منه.
إن تحذيرات الخبيرة الأممية الخاصة؛ حول تهجير سكان قطاع غزة، تجعل من هذه المسألة أمرًا بالغ الخطورة، ينبغي أن يوضع على رأس سُلم الأولويات، وذلك يتطابق مع الخطط التي قدمتها مراكز الاستشارات والاستخبارات الصهيونية لنتنياهو، وأيّدته فيها علنًا بعض الدوائر الأميركية، تحت ذريعة أنها الطريقة المثلى لحماية المدنيين الفلسطينيين من القتل في الحرب التي يشنها الجيش الصهيوني ضد حركة “حماس” والمقاومة الفلسطينية.
ويبدو أنَّ إصرار نتنياهو على مواصلة حربه البربرية في قطاع غزة ــ ورفضه الوقف الدائم لإطلاق النار، والإصرار على الاستمرار فيها لعدة شهور قادمة، رغم خسائره الباهظة في الأرواح والمعدات، ورغم ما قد ينتج عن هذه الحرب من القضاء على الأسرى والمختطفين تحت وابل القصف العشوائي المتواصل، وكذلك إصراره على المضي قدمًا دون خطة واضحة ــ هو حرصٌ منه على إتمام عملية تفريغ قطاع غزة وتهجير شعبه، لعل ذلك يشفع له عند شعبه داخل إسرائيل وخارجها، وينجيه من حبل المشنقة أو القضاء بقية عمره خلف قضبان السجن.