المقاومة أمانة فلا تخونوها

لم يكن أحد يتوقع أن تصمد المقاومة كل هذا الوقت في مواجهة الجيش الإسرائيلي المدعوم أمريكيا وأوروبيا، بمن في ذلك أطراف فلسطينية، وهو ما دفع بعمرو موسى أن يتساءل بطريقة استنكارية لا تخلو من سخرية من وسائل الإعلام: “هل أصبحت حماس دولة عظمى؟”، واعتبر أن “هناك هيصة حول محاصرة إسرائيل لمستشفى الشفاء، وأن الجيش تقدم كم مترا أو أكثر”. ووصف ذلك بالقول: “حاجة مضحكة جدا.. هل هذا هو الجيش الذي لا يقهر” يقصد الجيش الإسرائيلي. وختم تعليقه على ذلك بالقول “حصلت مبالغات مهولة وأكاذيب من هنا وهناك”. جاء ذلك في حوار له مع الزميل طوني خليف، رغم أن بقية الحديث تضمن أفكارا هامة حول مستقبل الصراع مع إسرائيل، مؤكدا بالخصوص على حق الفلسطينيين في مقاومة الاحتلال، وأن القادم سيكون أكثر تطورا في وسائل المقاومة إذا استمر الجميع في تجاهل الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني.

كان الخطاب السائد قبل هذه السابع من تشرين الأول/ أكتوبر أن الحروب في القرن الواحد والعشرين تُحسم عبر التفوق التكنولوجي، وبما أن السلاح الذي تملكه إسرائيل 70 في المائة منه أمريكي الصنع، وبما أن غزة لا تتجاوز مساحتها 360 كيلومترا مربعا، وهي عبارة عن أرض ساحلية منبسطة مثل كف اليد، ومحاصرة من جميع الجوانب، لهذا توقع الجميع أن القضاء على حماس سيكون أشبه بنزهة. واستعرض المؤمنون بقواعد الحرب التقليدية الإمكانيات الجبارة التي تحت تصرف القيادة الإسرائيلية وحلفائها، وقدرتها على الهدم والسحق والوصول إلى ما فوق الأرض وما تحتها، فلن يقف في طريقها أربعون ألفا من المقامرين المحاصرين. وقلل هؤلاء من أهمية الأنفاق التي تم حفرها، وهوّنوا من الخبرة العسكرية التي اكتسبتها المقاومة، واستخفوا بالصواريخ التي حصلت عليها أو صنعتها محليا.

الذين تصوروا وتوقعوا أن موازين القوى هذه والحسابات العسكرية لكبار الخبراء لن تخطئ؛ وجدوا أنفسهم الآن في تسلل، بمن فيهم مئات من المثقفين العرب الذين ظنوا بأن القضية الفلسطينية قد حُسمت منذ زمن، وما حصل بعد 1967 إنما محاولات فاشلة ومجرد تفاصيل، وطالب الكثير من هؤلاء بالاعتماد مستقبلا على إسرائيل واتخاذها حليفا دائما.

عدم الاستسلام هو أول شرط للتغيير، ويحصل ذلك من خلال الشروع في التفكير من خارج الصندوق. هذا ما فعله قادة حماس وجناحها كتائب القسام، وما اعتبره الآخرون مستحيلا رآه هؤلاء أمرا ممكنا. فالاستناد على الله، ثم الثقة بالذات، واستحضار التاريخ، والإيمان بقدرات الأفراد وشجاعتهم وانضباطهم، خصائص إذا توفرت في جماعة واعية، تفكر بعقلانية وقيم العصر وبحد أدنى من النزاهة فإنها ستكون قادرة على تحقيق المعجزات. لقد تحقق كل ذلك في المقاومة الفلسطينية بعد مرورها بتجارب عديدة تعلمت منها الكثير وقيمتها بشكل جيد لتجاوز الأخطاء القاتلة.

الذين لا يزالون متخندقين وراء الحواجز الأيديولوجية ستطويهم حركة التاريخ ومستبطني الهزيمة الدائمة. الخطر اليوم لا يكمن في وجود حركة إسلامية تقوم المقاومة في فلسطين، وإنما تتجسد في من يعمل على التخلص منها بكل الطرق. إن القضاء على هؤلاء الذين يخرجون من بين الأنقاض، ويعرضون أنفسهم للموت ليصنعوا أساطير سيرويها أحفادهم في المستقبل، سيكون عملا عبثيا لن يستفيد منه سوى العدو؛ هذا العدو الذي هو عدو الجميع، ولن يقبل التعامل بندية مع أي طرف أكان فردا أو نظاما. وإذا كانت إسرائيل اليوم قد لجأت إلى الاستعانة بالذكاء الاصطناعي للتخلص من المقاومة، وهو سيف ذو حدين، فإن العرب مطالبون بالاستثمار في الذكاء البشري لهؤلاء الذين تمكنوا من تغيير المشهد العام، وفتحوا المجال لشق طريق أو طرق أمام المخلصين والعقلاء لبناء مستقبل فلسطيني وعربي وإسلامي وإنساني مختلف، مستقبل خال من الظلم والكيل بمكيالين.

لماذا يتجنب العديد من أصحاب القلم والفكر الاستماع لبعض شهود العيان في قلب إسرائيل الذين استشعروا الخطر فسارعوا إلى الاعتراف بأن زلزالا لم يتوقعوا حدوثه فعدّلوا جوهريا في آلية التفكير عندهم، وأقنعوا أنفسهم بأن دوام الحال من المحال؟ آخر هؤلاء الكاتب الصهيوني آري شبيت الذي نشر مقالا في صحيفة هآرتس جاء فيه: “يبدو أننا نواجه أصعب شعب عرفه التاريخ ولا حل معهم سوى الاعتراف بحقوقهم وإنهاء الاحتلال”. واعتبر أنه “انتهى الأمر، يجب توديع الأصدقاء والانتقال إلى سان فرانسيسكو أو برلين أو باريس.. يجب النظر بهدوء ومشاهدة دولة إسرائيل وهي تلفظ أنفاسها الأخيرة”.

 

المحتوى ذو الصلة