تمتدّ جراحاتُ الشعب الفلسطيني على طولِ 75 عاماً وَعَرضها، أذاقه فيها الاستعمار الاستيطاني الصهيوني عذاباتٍ من كل نوع، وآلاماً بلا نهاية، كانت البداية في انتزاع الأرض من أصحابها الأصليين، وتهجيرهم، وتقتيلهم، وتشتيتهم، واستضعافهم، واعتقالهم، وحصارهم، وعدِّد ما شئت من صنوف الظلم والاضطهاد، فالجرح الفلسطيني شمل الفلسطينيين جميعا، لم يُبق منهم أحداً إلا مسّه بنُصْبٍ وعذاب، بلا استثناء، في الضفة الغربية والقدس وأراضي الـ48 وقطاع غزّة والشتات، غير أن مسارات الأحداث في العقدين الأخيرين قَسَمَت للفلسطيني الغزّيّ نصيبَ الأسد من الوجَع مع انطلاقة انتفاضة الأقصى عام 2000، لكن هذا الوجع زاد واشتدّ مع الحصار الإسرائيلي المُطْبِق على قطاع غزّة منذ 2006، مروراً بحروبٍ صهيونيةٍ عدوانيةٍ متتاليةٍ ضد أهله بدأت عام 2008 ولم تتوقف. حروبٌ تَبْغَتُهُم كل عام أو عامين كأنها مواسم للحصاد، تُقطف فيها أرواح آلاف الغزّيين، فضلاً عن الإهلاك المباشر لكل ما يقع تحت آلة القتل الصهيونية من حجَر أو بشَر أو شجَر، هذا في حقّ الغزّيّ المقيم داخل غزّة.
ويتضاعف الألم والأنين عند الغزّيّين المغتربين، في جميع الأوقات، في السّلم والحرب، بلظى الخوف من السفر إلى غزّة، لأسباب كثيرة ليس هذا مكان بسطها، لكنها تُحوّل غربتَهم إلى إبعادٍ قهريّ، فيستسلم الواحد منهم للخوف، ويُؤْثر السلامة، وتمضي السنوات، وهو يمنّي نفسه لعل الأوضاع تتحسّن قريبا، ليتمكّن من زيارة بلده ولو أياما معدودة، غير أنّ القريب هذا قد يمتد عقدا كما في حالة كاتب هذه الكلمات، وربما عقوداً في حالات أُخرى لا يمكن حصرها.
وفي أثناء العدوان الصهيوني الحالي على قطاع غزّة، يعيش الغزّيُّ المغترِب في قلبِ دائرةٍ من نار، يحيط به لهيبُها اللاذع من كل جانب، يزيد أو ينقص إيلامُه حسب ظروف كل غزّيٍّ وآخَر، لكنه يظل لهيباً، يُحيلُ غُربة الغزّيّ إلى عذاباتٍ بعضُها فوق بعض، وهروبه منها لن يتحقق ﴿حتى يلجَ الجملُ في سمّ الخِياط﴾، ولعل أقسى ما يعانيه الغزّي المغترب عجزه الكامل عن فعل أي شيء حقيقي يساعد به أهله هناك وهم تحت النار، ويستحيلُ هذا العجزُ إلى قهرٍ متكاملِ المواصفات، فحتى إرسال مساعدة مالية تُبقي أهله قادرين على النجاة لم يعُد ممكناً، أما الاتصال بهم فقد يحتاج أحياناً نصف يومٍ من المحاولات وربما أكثر، بل إن جهاز الجوّال يتحوّل إلى عدوّ لدودٍ بعدما كان أقرب المقرّبين، ولا يكاد يفارق الكفّين، يتوسّل إليه صاحبُه ألا يرنّ، فمع كل رنة جرس، أو نغمة إشعار، ترتعد الفرائص، وترتجف الأصابع، خشيةً من قدوم أخبار أليمة، تحملها الرسائل أو المكالمات، لكن لا مفرّ من الردّ، تتقدّم اليدُ راجفةً نحو الهاتف، بينما يهرب القلبُ في الاتجاه المعاكس، ويتم النظر إلى الشاشة بنصف عين، لكن الهاتف أحيانا يصبح بلا قيمة، حين ينقطع الاتصال بفعل تدمير القصف الصهيوني للشبكات والبُنى التحتية، فيصير حال الغزّيّ المغترب على النقيض، يصبح يتوسّل هاتفه أن يرنّ، أو يأتي بأي معلومةٍ مهما كانت.
في هذا العدوان، فَقَدَ الغزّيّ المغترب تركيزه في كلّ شيء، يَهيم في شوارع وأماكن حَيرانَ أسِفاً، تهاجمُه جميع الاحتمالات السيئة التي يمكن أن تخطُر على بال، كفقدِ الأهل، قصف البيت، الإصابات، التشرّد، الغذاء، الماء، الدواء، النزوح، اللجوء، والاعتقال. ثم تأتي لحظة المواجهة مع الحقيقة، عند فقد الوالدين أو الأهل والرفاق تحت زخّات القنابل الصهيونية المبيدة، فيدرك الغزّيّ المغترب أنه حُرم إلى الأبد من آخر ضمة صدرٍ للوالدين، آخر نظرة، آخر قُبلة على الجبين، انتهى كل شيء. يفتح بيت العزاء الصغير في بيت الغربة الكبير، يصمد مؤقتاً مع زحمة القادمين إليه، وانشغاله بينهم جسداً لا روحاً ولا عقلاً. وإذا أُغلق باب العزاء، واختلى بنفسه، خرّ مغشياً عليه وأثْبَتَهُ الحنين بدون مقدّمات، واتخذ ركناً من البيت، ليغرق في الدموع، ومع تكرار الفجيعة وتواليها يوماً بعد يوم، أصبح في البيت ركن البكاء- ركن بعيد في آخر البيت- يبكي فيه ويسترجع فيه الذكريات، كما لو أنه يُجلد بسوطٍ من نار، يُخفي نفسه وضعفه ودموعه في ذاك الركن، حتى لا يتسرّب الهلع للأطفال، يبكي الغزّيّ المغترب وحيداً، ويمسح دمعه وحيداً، ويغالب سطوة القهر وحيداً، إلا من إيمانٍ بعدل الله، فإخوة من جيران وزملاء وأصدقاء هم ركنٌ شديد يُستنَد إليه، وبلسمٌ شافٍ في دعمهم وتثبيتهم، ثم زوجة يتقوّى بها، وتتقوّى به. … وهذا كله نزرٌ يسيرٌ مما يعانيه الغزّيّ المغترب، وليس كل ما يُعلم يقال، ولو اتّسع المقام، لطال المقال.
جُرح غزّة كبير، إلى درجة أنّه اتّسع للجميع، وصار لكل غزّيّ جرحه الخاص. بدأ الأمر معي في أول يوم شنّ فيه الاحتلال الصهيوني عُدوانه على القطاع بُعيد عملية طوفان الأقصى في 7 أكتوبر. كان الألم يتموضع في القلب، ويأخذ مكانه بجدارة مع كل صورة أو خبر يحمل إليّ مشاهد الإبادة والقتل لشعبي المذبوح، فكان الجرح كبيراً بحجم فلسطين كلها، لكن يأبى القدر إلا أن يقتطع من هذا الجرح العام، جرحاً خاصاً، يصيبني في أقرب الناس، وأعزّ الناس.
كنتُ على سفر، وفي غرفة الفندق، جلستُ وحيداً، فجاءتني أخبار استهداف بيت خالي، واستشهاده مع جميع أفراد أسرته بالزوجة والأبناء والأحفاد، لم يبق له من ذرّيته إلا ولد وبنت، ورحلَت معه عائلة خالي الآخَر الذي لم يكن في البيت، لكن لم يبق له أحد، اختفت العائلة تماماً، كانت هذه أولى الأثافي.
جاءت ثانية الأثافي بعد أسبوعين من الأولى، مع استشهاد ثلاثة شباب من أولاد خالاتي، وابن عمّي، وحصار أهل زوجتي في مستشفى القدس، وخسارة عشرات من رفقاء الدرب وأصدقاء العُمر. أما ثالثة الأثافي فجاءت مع استهداف بيت أُختي، واستشهادها مع زوجها، وابنها، وابنتيها، وحفيدها وأمه، وعائلة كاملة لشقيق زوجها، وإصابة أبنائها الثلاثة، وأخبروني بعدها أن القصف من شدّته، قذف بأختي إلى سطح بناية مجاورة. وفي تلك اللحظة، فقدتُ القدرة على الصمود في وجه المشهد الحزين، فانفجرتُ باكياً في مكتب العمل، إلى أن استدركني الزملاء وأخذوني إلى البيت.
مع كل حدثٍ من الأحداث السابقة، كنت أشعر بأنني أفقد حظاً وافراً من الذكريات، وأستشعر أنني أنا الذي أموت، وليس هم، ولما تكلّمتُ مع والدتي بعدها، تذوقتُ مرارة الفقد في كلماتها، في نعيها أختي، لم تكن أمي تدرك أنني سأكتوي بفراقها هي نفسها بعد عدة أيام. لا أحد يعلم الغيب.
تجلّدتُ وأقنعتُ نفسي بأنّ استمراري في الحياة وطلب الرزق وتحصيل العلم جزء من الصمود، والعناد في وجه المحتل، وكان هذا هو الحال إلى أن داهمَتني الزلزلة الكبيرة، الضربة القاضية، لكمَتني على قلبي بقوة هائلة، فأسكتتني حتى أطبقَت عليّ، كان ذلك يوم 3 ديسمبر/ كانون الأول الحالي. في أثناء قيادتي للسيارة، وعند استقبال خبر استشهاد الوالدة، خُيِّل إليّ أنني هَوَيتُ في نفقٍ مظلمٍ عميق، تَخطَفُني الطير، أو تهوي بي الريحُ في مكانٍ سحيق، لأن الخبر جاء تفصيلياً على نحو متسارع، قال لي المتحدّث: قُصف البيت، استشهدت أمك، وعائلةُ عمِّك، وزوجة أخيك، وأولاد أخيك، ومعها كل مَن في العمارة، وما زالت أمك تحت الركام.
هكذا دفعة واحدة من اللكمات على جدار القلب. ومع ذلك، لم يكن أمامي خيار إلا التجلّد ولو مؤقتاً، لأنني صرتُ محتاراً هل أرجع إلى مكان العمل وأطلب من أحد الزملاء توصيلي بالسيارة، أم أستمر في القيادة لأدرك زوجتي وأولادي في البيت قبل أن تصل إليهم الأخبار، وفي الوقت نفسه، يجب أن أتصل بأحدٍ يتوجّه لدعم بنتي في تركيا، وآخر يجب أن يذهب لمساندة ابني الآخر في ألمانيا. وبين كل هذه الاتجاهات المتعاكسة، اخترتُ أن أذهب لدعم زوجتي، لأنني أعلم كيف سيكون وقْع الخبر عليها، وفي أثناء الطريق كانت المكالمة العجيبة، مع الوالد، كل مَن كلمتُهم قبله لم يكونوا قادرين على الكلام، ومشغولون بالحدث، ينقلون الجرحى، أو ينتشلون الشهداء من تحت الركام، إلا هو، قال لي بصوت ثابت: معلش يابا، استشهدت أمك، راحت الدار، وفي سبيل الله … ثم انقطع الاتصال. لم أصدق أن هذا أبي، صاحب الدمعة القريبة، رقيق القلب، من أين جاءه ذاك الثبات، في لحظة الفقد، من الله. لا أُخفي أنّ دهشتي من تلك المكالمة لم تزُل، إلا بعد أن ارتقى والدي شهيداً بعد أمي بيوم، يوم واحد فقط، وتجدَّدَ بينهما اللقاء والاجتماع، حينها فقط عرفتُ سرّ ثباته في تلك المكالمة، كان يتجهّز للشهادة. جاءني خبر استشهاد الوالد بطريقة تفصيلية أقسى منها حين استشهاد الوالدة، وحتى الآن تدور حول استشهاده روايتان، كلٌّ منهما أقسى من الأُخرى، لم يتسنّ لي بعد التدقيق في أيهما أصحّ، ما الفائدة أصلاً؟!
الرواية الأولى أن القوات الصهيونية الغازية حاصرَتهم داخل بيت أُختي، وطلبت منهم الخروج، خرجَت أختي الكبرى رافعة يديها وجبهتها شامخة نحو السماء، فَقَنَصَها الصهيوني الغادر، لحق بها أبي ذو الـ 76 عاماً، فأرداه المجرم بجوار أختي. الثانية أنّ القنّاص الصهيوني قتل أختي الكبرى وهي داخل بيتها، أدخل إلى رأسها الرصاصة من فتحات النافذة، كان والدي مشغولاً بإطعام ابن أخي الذي أصيبَ في قصف بيتنا قبلها بيوم، فأراد الوالد أن يلتفت إلى أختي، فعاجَله القاتل برصاصة من النافذة نفسها. تَجاوَر والدي وأختي الكبرى في الشهادة.
هرَع نحوهما كل مَن في المنزل، من دون القدرة على فعل شيء، لأن القنّاص يتربّص بهم جميعاً، فتحوا فتحة في الجدار، زحف المصابون المحترقة أيديهم، وزَحَفَت بقية أهل البيت، وتمكّنوا من النجاة بأعجوبة، لكن أبي وأختي الكبرى بقيا شهيديْن متجاورين داخل البيت، يؤنس أحدهما الآخَر، وظللتُ طريحاً تحت هول الصدمة.
أعترف بأنه بعد استشهاد والدي، ذهب بعضُ الحزن أو معظمه، لأنني قرأتُ رسالة القدَر، وشعرتُ بأنها تخبرني بأنّ شيئا يمكن أن يحصل للوالدين، أن يجتمعا معاً من جديد، هذا صحيح، لأنني لم أكن أعرف بأي شكل كيف سيُكمل أبي حياته بدون أمي.
استسلمتُ لقضاء الله، وأقنعتُ القلب بأنه قادرٌ على الصمود أمام هذه الموجة العاتية من الحزن. إنها زلزال كبير جعلني يتيماً بين ليلة ويوم، وأنا أحاول الخروج منه ناجياً، لكن الأفكار والأسئلة ظلّت تطاردني وتهاجمني من كل زاوية بلا هوادة، صور الشهداء وأصواتهم والذكريات معهم، لكن أصعب ما في الأمر حالهم بعد استشهادهم، فبعد استشهاد والدي وأُختي، تُركا في إحدى غرف البيت، وأُغلق عليهما الباب، وأُخلي البيت هرباً من القنّاص، وظللتُ أعدّ اليوم بعد اليوم، أنتظر اللحظة التي نتمكّن فيها من دفنهما، وقد حاول بعضُ الشباب فعلاً الوصول إليهما، لكن عاجَلَهم القنّاص فاستشهد اثنان منهم، ولم يتحقق دفنُ والدي وأختي إلا بعد ثمانية أيام من الاستشهاد، دُفنا على عَجَل في أرض لم تكن يوماً مقبرة، وتُركا متجاوريْن في القبر، كما تجاورا في الشهادة، على أمل أن يُنقلا إلى قبر آخَر بعد أن تضع الحرب أوزارها.
ما تحقّق لوالدي وأختي الكبرى، لم يتحقّق لوالدتي وبقية عائلة عمي، ما زالوا تحت الركام منذ استشهدوا، صورة أمّي تحت الركام لصيقة بي لا تفارقني، في اليقظة والنوم وعلى كل حال، أتخيّل وضعيتها بين الحجارة والتراب، وتصعقني آلاف الأسئلة والصور، أسئلة من قبيل: هل كانت أمّي شهيدة أصلا في أول الأيام بعد القصف؟ ربما عاشت يوماً أو يومين، ثم استشهدت لأنه لم يمكن الوصول إليها بسبب عدم القدرة على التعامل مع الأنقاض، فلا آليات ولا معدّات، ولا أمان من قصف جديد. بين هذا السؤال وذاك، سيظلّ كثيرون من الغزّيين المغتربين، وأظلّ معهم أعدّ الساعات، حتى الوصول إلى أمهاتنا وآبائنا وأولادنا، ليأخذوا حظهم من الدفن والتكريم، من دون ذلك سيظلّ قلبي شارداً، ساكناً هناك بجوارهم.
في الختام، كما كان الحال منذ النكبة الفلسطينية عام 1948، لا مفرّ من الألم والحزن إلا بمزيد من المقاومة والعمل لإزالة أسبابه. إنه الاحتلال، السبب الوحيد لكل ألم وحزن وفجيعة ألمّت بالشعب الفلسطيني. وعلى المستوى الشخصي، يبدو أن الخلاص من الألم والحزن مستحيل. ولكن تخفيفه يمكن بالرضا والتسليم، ثم النظر إلى مَن هو أعظم منا مصاباً في أهل غزّة، أو بالنظر إلى مصابنا جميعاً، بفلسطين الذبيحة.