على بعد أمتارٍ قليلة، جنوب المسجد الأقصى المبارك، يعيشُ أهالي حي وادي حلوة ببلدة سلوان، بالقدس المحتلة، تحديًا وإصرارًا على الحفاظ والتمسك بمنازلهم وأراضيهم المُهدّدة بخطر الإخلاء والمصادرة من قِبل الاحتلال الإسرائيلي؛ بحجّة إقامة قطارٍ هوائي تهويدي “تلفريك”.
ومؤخرًا، استيقظ الأهالي على “صدمة” بعد أن تفاجؤوا بتعليق “اللجنة المحلية للتنظيم والبناء” التابعة للاحتلال إعلاناتٍ ضخمة في الحيّ، باللّغتين العبرية والعربية، تُنذر بإخلاء أكثر من 30 عائلة مقدسية؛ بذريعة “تلبية احتياجات الجمهور وتطوير المواصلات العامة”.
وجاء في الإعلانات، نيّة اللجنة الحصول على الحقوق الكاملة للأرض الفلسطينية وحريّة التصرّف فيها، حسب “قانون الأراضي” و”قانون التنظيم والبناء”، حيث ستبلغ مجموع المساحة المصادرة نحو 8725 متر مربع.
ويأتي هذا القرار، استكمالًا لمشروع القطار الهوائي، الذي صادقت عليه حكومة الاحتلال عام 2019، ورفضت محكمة الاحتلال العليا عام 2022 كلّ الالتماسات المقدمة ضدّه.
وبقلقٍ وتوتر يترقّب أهالي حي وادي حلوة مصير منازلهم وأراضيهم، وباتوا يعيشون أيامًا قاسية ومشاعرَ لم تمرّ عليهم من قبل؛ بعدما أمهلهم الاحتلال حتى 31 من كانون الأول/ ديسمبر الجاريّ لإخلائها؛ ليقيمَ مشاريعه الاستيطانية على أنقاض الممتلكات والذكريات الفلسطينية.
ونقلت “وكالة سند للأنباء” هذا الحال على لسان الحاج زياد أبو سنينة (69 عامًا) بقوله: إن بلدية الاحتلال في القدس كانت قد أعلنت عن مشروع “القطار الهوائي” عام 2019، وفي حينها، تقدّم الأهالي بالعديد من الالتماسات ضده إلى محكمة الاحتلال.
ويسرد لنا: “نُشر هذا القرار أول مرة في 19 أيلول/سبتمبر الماضي، وكان يجب على بلدية الاحتلال أن تقوم بوضع الإعلانات في الحيّ بـ31 تشرين أول/ أكتوبر؛ حتى يكون هناك شهرين من اليوم الأخير لإنذار الإخلاء”.
ويضيف بقلبٍ مكلوم: “الاحتلال استغل انشغال العالم في الحرب على غزّة، وقد صُدمنا صباح العاشر من كانون أول/ديسمبر الجاري، بتعليق بلدية الاحتلال إعلاناتٍ ضخمة في الشارع، تُنذرنا بإخلاء منازلنا وتُمهلنا حتى 31 من الشهر الجاري.. أي بعد انقضاء ثلثي المُدّة!”.
ويُكمل متسائلًا: “يطالبوننا بإحضار أوراق إثبات ملكية والتفاوض معهم.. نحنُ لم نعرض أملاكنا للبيع، ولا نرغب ببيع أيّ شيء من وطننا! على ماذا سنتفاوض؟ وإلى أين سنذهب إذا تشرّدنا؟”.
“صمودٌ بوجه “السرطان”
يعيش “أبو سنينة” في منزله منذ 49 عامًا، فهو بيتُ العُمر المليء بتفاصيل الحياة، فيه كَبُرَ وتزوج، وأصبح أبًّا وجدًّا، وصنع أجمل ذكرياته، ورابط بأكناف مسرى الرسول -عليه السلام- الذي لا يفصله عنه سوى مئتيْ متر.
وبنبرةٍ من الألم، يُحدّثنا: “أعيشُ في منزلي مع أولادي وبناتي وأحفادي، ويصلُ عددنا 31 فردًا، لن نجد أجمل من هذا المكان.. هذا وطننا ومسقط رأسنا، يعزّ علينا أن نتركه، وأن نبتعد عن المسجد الأقصى المبارك”.
ويبيَن ضيفنا، أن المنطقة المُهدّدة بالإخلاء والمصادرة كبيرة، تملكُ موقعًا هامًا وحساسًا لقربها من سور القدس وباب المغاربة وباب النبي داود، وهي أراضي وقفٍ إسلامي، يمكثُ فيها أكثر من 30 عائلة مُمتدّة بأبنائها وأحفادها.
ويشيرُ بغصّةٍ وأسى، إلى الظروف المعيشية الصعبة في مدينة القدس، في ظل الضرائب الباهظة التي تفرضها عليهم سلطات الاحتلال، ومضاعفتها أو محاكمة من لا يلتزم بدفعها؛ منوّهًا أنه يدفع هو وأولاده ضريبة تتراوح قيمتها بين 15 لـ20 ألف شيقل سنويًا.
ويردف: “هذا إلى جانب صعوبة الحصول على ترخيص بناء وتكاليفه الباهظة، وتكاليف توكيل محامي ومتابعة الإجراءات القضائية، علمًا أن آخر رخصة بناء في بلدة سلوان أُصدرت عام 1976، أيّ قبل 47 عامًا”.
لكنّ هذه العائلات لا تعرف سوى الصمود والثبات، ويؤكّد “أبو سنينة” على ذلك بقوله: “لن نغادر منازلنا سوى إلى القبر.. تعلّمنا حبّ الوطن على الفطرة، وسنتمسك بوطننا لآخر لحظة.. نحن أقوياء بالله”.
يصمتُ قليلًا، يتنهد، ثمّ يُتابع بصوتٍ يملأه النحيب: “ما يحدث مؤلمٌ جدًا.. مصيبةٌ كبيرة.. كأنها سكينة تجرح في القلب.. هذا بلاء، بل سرطان ومرضٌ كبير!”.
ويطالب “أبو سنينة” في حديثه، العالم كافةً والمقدسيين خاصةً وكلّ من يستطيع المساعدة، بالتحرّك الفوري والوقوف إلى جانبهم، وتسليط الضوء على قضيتهم، ووضع حدٍ لانتهاكات الاحتلال وتشريده للعائلات الفلسطينية ومصادرته أراضيهم.
تهويدٌ ومصادرة
يلتهمُ مشروع القطار الهوائي أراضي بلدة سلوان، ليربطَ جبل الزيتون بحائط البراق، ضمن منطقة الحوض الطبيعي للبلدة القديمة التي يسميها الاحتلال بـ “الحوض المقدّس”؛ لتعزيز فكرة “ضمّ القدس وتوحيدها، وقطع أيّ اتصالٍ فلسطيني بها”.
ويروّج الاحتلال له تحت غطاء “السياحة وتسهيل المواصلات”؛ لكن هدفه الحقيقي خدمة الوجود الاستيطاني في مدينة القدس بشكل عامٍ وفي البلدة القديمة وحي وادي حلوة بشكلٍ خاص، وتسهيل وصولهم واقتحاماتهم للمسجد الأقصى المبارك بأعدادٍ كبيرة.
ويهدف المشروع أيضًا لتغيير هوية مدينة القدس وتعزيز الرواية “الإسرائيلية” من خلال خلق وقائعٍ على الأرض تدعم تلك الرواية؛ فهو يمسّ البلدة القديمة وتاريخها والمنظر العام في المنطقة، وسيؤدي إلى مصادرة أراضٍ مملوكة للأهالي وهدم منازلهم، ويمسّ خصوصية السكان بمرور العربات من فوقها.
كما سيعمل المشروع على ضرب الحركة التجارية في البلدة القديمة ومنطقة باب العامود –المدخل التجاري الرئيسي– من خلال ربط القادمين للبلدة بخطّ القطار وباب المغاربة.