“إسرائيل” تختار طريق “اللاحل” مع تعمُّق أزمتها الإستراتيجية

[[{“value”:”

سؤال الخيارات الإستراتيجية لدولة الاحتلال الإسرائيلي ليس وليد اليوم، بل يعود إلى مرحلة تأسيس الكيان المحتل على أرض فلسطين عام 1948، وتعمّق مع احتلالها الضفةَ الغربية وقطاع غزة وسيناء ومرتفعات الجولان في العام 1967. وقديمًا، كانت هناك تحديات كثيرة وخطيرة في الوقت نفسه، منها مثلًا البيئة المحيطة المعادية، وفق تعبير الإسرائيليين.

بيدَ أن هذا التحدي تفكك مع مرور الزمن ومع تدحرج الهرولة العربية للاعتراف بدولة الاحتلال الإسرائيلي وإقامة علاقات دبلوماسية معها، وبالطبع تتويجها باتفاقيات التطبيع مع عدد من الدول العربية، لكن التحدي الأكبر ما زال قائمًا، وهو وجود كتلة سكانية فلسطينية كبيرة في قلب هذه الدولة، بل وتضخم هذه الكتلة على مرّ السنين.

حدث مزلزل
وإذا انتقلنا إلى مرحلة ما بعد الانتفاضة الثانية، فهي المرحلة الذهبية لدولة الاحتلال الإسرائيلي، حيث توسع الاستيطان، وتوسّعت كذلك علاقاتها مع الدول العربية ودول مختلفة في العالم، وأصبحت القضية الفلسطينية وراء ظهور الجميع، وأصبح الحديث عنها لا معنى له ولا جدوى منه، مع تجاهل تام لهذه القضية على المستوى الدولي، حيث اعتقد الكثيرون أنها اضمحلّت في ظل غياب دور فلسطيني فاعل على مستوى الإقليم، وعلى مستوى العالم، وفي ظلّ انشغال العالم بقضايا كثيرة لا تتّصل بما يسمى “المشكلة الفلسطينية”.

وفي هذا السياق، نستحضر عبارة الرئيس الأميركي بايدن للرئيس الفلسطيني أبو مازن في إجابته عن طلبه إقامةَ دولة فلسطينية، ضمن قائمة طويلة من المطالب، حسب تعبير موقع الشرق بتاريخ 21/7/2022، حيث قال بايدن: “”هذه أشياء تحتاج إلى السيد المسيح، صانع المعجزات كي يحققها”، في إشارة إلى أنّ الوضع السياسي الدولي لا يسمح بأي تقدم في مجال القضية الفلسطينية، ما يعني حصر القضية في أضيق الحدود، بحيث لا تتعدى المساعدات التي تُقدم للسلطة الفلسطينية، وبعض الأمور التي ليست ذات صلة بجوهر الصراع.

ثم جاءت أحداث 7 أكتوبر/تشرين الأول التي أحدثت زلزالًا على مستوى العالم، وليس على مستوى فلسطين أو الإقليم فحسب. فانتفضت الدول الكبرى؛ (أميركا وأوروبا وحلفاؤها)، وهبّت لمساعدة دولة الاحتلال في مواجهة هذا الهجوم، والتهديد الذي اعتبره نتنياهو أنه “وجودي”.

وعادت القضية الفلسطينية إلى صدارة القضايا العالمية، ووقع الاحتلال في مأزِق شديد الخطورة، أعاد إلى الواجهة النقاش حول الخيارات الإستراتيجية في التعامل مع القضية الفلسطينية بشكل ملحّ وغير مسبوق. فالدول الغربية، وعلى رأسها الولايات المتحدة، ومعها بالطبع الدول العربية، اعتبرت أن خيار حلّ الدولتين هو الخيار الأفضل.

لكن دولة الاحتلال عملت على قتل هذا الخيار من خلال تكثيف البناء الاستيطاني في الضفة الغربية والقدس، وتوطين أكثر من سبعمائة ألف مستوطن على أراضي القرى والمدن الفلسطينية، فضلًا عن الحصار المفروض على الضفة وغزة والقدس، وإنهاء اتفاقية أوسلو من الناحية العملية.

خيارات إنهاء الصراع
كان نتنياهو يتجنب الحديث عن اليوم التالي للحرب على غزة، ويتجنب أيضًا الحديث عن حل الدولتين، إلا أن تصاعد الأصوات حول العالم التي تطالب بهذا الخيار، أدى إلى أن يخرج نتنياهو، ويتحدث بقوّة، لكي يواجه العالم بالحقيقة التي تم غض الطرف عنها إسرائيليًا وعالميًا لعقود طويلة، وهي رفض الاحتلال الإسرائيلي المطلق لحل الدولتين، والرفض المطلق لمبدأ إقامة دولة فلسطينية.

وبالطبع، وكما هو الحال في جميع المواقف المتناقضة بين دولة الاحتلال وبين دول العالم والمنظمات الدولية، فإن العالم بأسره علّق على موقف نتنياهو بعبارات خجولة، لا ترقى لمستوى قوة الموقف الإسرائيلي.

وحتى عندما صوّت الكنيست الإسرائيلي في شهر يوليو/تموز 2024 على منع إقامة دولة فلسطينية، توالت الإدانات العربية والعالمية، إلا أنها لم ترقَ إلى الحد الذي يؤدي إلى الضغط على دولة الاحتلال للتراجع عن هذا الموقف، أو انتهاج أسلوب أكثر براغماتية حول هذه القضية المحورية.

أما الموقف الأميركي، فقد كان أسوأ من كل التوقعات، حيث يرى الأميركان إمكانية إقامة الدولة الفلسطينية، بل ضرورة ذلك، ولكن فقط في إطار التفاوض. وهذا يعني موافقة الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي على حل الدولتين. وهذا يطرح سؤالًا بديهيًا: كيف يكون التفاوض مع طرف يرفض قيام دولة فلسطينية رفضًا مطلقًا؟

وفي ظل هذا الجدل، تبقى التحديات الإستراتيجية لإسرائيل في هذا السياق في غاية التعقيد. فأمامها أربعة خيارات، لا خامسَ لها، علمًا بأن السياسيين والمفكرين وذوي الخبرة في التخطيط الإستراتيجي في إسرائيل، يدركون هذا الأمر جيدًا، دون القدرة على تقديم إجابات وحلول منطقية حول أي هذه الخيارات هو الأفضل لإسرائيل. وتتمثّل الخيارات الإستراتيجية أمام إسرائيل لإنهاء الصراع، فيما يلي:

الخيار الأول: حلّ الدولتين
تعتبر “إسرائيل” أن وجود دولة فلسطينية، من الناحية السياسية، يشكل خطرًا وجوديًا عليها، وأن قيام هذه الدولة يمثّل بداية زوال “إسرائيل”. والسبب في ذلك أنها ترى أن الفلسطينيين الذين يرزحون تحت احتلال قمعي، وحصار شديد، وإجراءات أمنية قد لا يكون لها مثيل في العالم، استطاعوا مقاومة الاحتلال بكل السبل طيلة العقود الماضية.

كما استطاع الفلسطينيون في غزة، وهم تحت حصار مشدد، صناعة الصواريخ والقاذفات والطائرات المسيرة، وغيرها من أدوات المقاومة. فكيف سيكون الوضع في حال لديهم دولة كاملة السيادة، ليس لإسرائيل أية سلطة عليها؟ وكيف لو أتيح للفلسطينيين حرية السفر والتحرك، والتعامل مع دول العالم دون قيود؟

وقد عبّر العديد من القادة الإسرائيليين عن موقفهم من هذا الخيار بالقول: إن قيام دولة فلسطينية يعني التوقيع على زوال إسرائيل. وبالطبع، فإن هذا الموقف يستند إلى قراءات عميقة في التجارب السياسية عبر التاريخ، وفي قراءة أيضًا لما يحدث على الساحة الفلسطينية من تطوير أدوات المقاومة والتصدي للاحتلال. ويرون أن الفلسطينيين لن يكتفوا بإقامة دولة فلسطينية، بل إنهم سوف يسعون لتحرير ما تبقى من الأراضي الفلسطينية التي أقيمت عليها “دولة إسرائيل” في العام 1948، ما يعني القضاء على إسرائيل وإقامة دولة فلسطينية من البحر إلى النهر.

ومن المهم الإشارة إلى أن الجانب الأيديولوجي في مسألة حل الدولتين يلعب دورًا أساسيًا، لا يمكن التغاضي عنه. فبالنسبة للإسرائيليين / اليهود، فإن جميع الأماكن المقدسة موجودة في الضفة الغربية والقدس، ولا يوجد معالم دينية لليهود في المناطق المحتلة عام 1948.

وهنا، تبرز أهمية الأراضي – التي من المفترض أن تكون “الدولة الفلسطينية” – للإسرائيليين. فقيام دولة “إسرائيل” استند إلى الأسس الأيديولوجية ابتداءً تحت شعار: “أرض الميعاد”، أي العودة إلى الأرض المقدسة التي أخرجوا منها قبل آلاف السنين. وبالتالي، فإن التنازل عن الأرض التي تضم المناطق المقدسة سيقدح بالأساس الأيديولوجي الذي تستند إليه “إسرائيل” ويفقدها مبررات وجودها.

الخيار الثاني: الدولة الواحدة
مشكلة الإسرائيليين، برفضهم لخيار حل الدولتين، أنهم يدفعون إلى خيار الدولة الواحدة، حيث يكون للفلسطيني والإسرائيلي نفس الحقوق في ظل نظام سياسي واحد، وعلى أرض واحدة. وهذا يعني أنه يمكن للفلسطينيين في المستقبل أن يشكّلوا أغلبية داخل حدود فلسطين التاريخية، وأن يحكموا البلاد، بحيث يصبح الإسرائيليون أقلية في فلسطين، خاضعين لحكم الأغلبية الفلسطينية.

ولذلك، فإن هذا الخيار أيضًا مرفوض، إلا أن هذا الرفض يضع دولة الاحتلال أمام أزمة أخرى، وهي: ماذا نفعل بالفلسطينيين؟ وإلى متى يمكن للعالم المتحضّر أن يرى دولة تضم مواطنين مقسمين إلى مواطنين درجة أولى ومواطنين درجة ثانية، تمامًا كما كان الحال في جنوب أفريقيا، عندما كان السود محرومين من حقوقهم السياسية، فضلًا عن حقوقهم الإنسانية، حيث كان الحكم حِكرًا على البيض فقط؟

الخيار الثالث: استمرار الاحتلال
اعتبرت “إسرائيل” طيلة السنوات السابقة أنّ الإبقاء على الاحتلال، وصرف أنظار العالم (المتواطئ أصلًا) عن واقع الشعب الفلسطيني تحت الاحتلال، هو خيار ناجع. فها هم الفلسطينيون في الضفة وغزة يعيشون حياة طبيعية، ويحصلون على حقوق إنسانية لا بأس بها، ويتم فقط معاقبة من تصنفهم إسرائيل وحلفاؤها بـ “الإرهابيين”، وهؤلاء مدانون من الدول المتنفذة في العالم، وبالتالي لن يأسف عليهم أحد. فالفلسطينيون لديهم سلطة (ذاتية)، ولديهم عَلَم وعاصمة، واقتصاد لا بأس به، ويعيشون حياة مقبولة أمام العالم. فما المشكلة في استمرار الاحتلال في ظلّ غياب أصوات تدعو إلى إنهاء الاحتلال؟

بيدَ أن هذا الواقع الذي عملت إسرائيل على تثبيته طيلة العقود الماضية، انهار تمامًا مع أحداث السابع من أكتوبر/تشرين الأول، والتي وضعت الصورة الحقيقية أمام كل مواطن حول العالم عبر مواقع التواصل الاجتماعي ووسائل الإعلام. صورة تعكس حقيقة الاحتلال وتفاصيله وآلامه وعذاباته بحقّ كل فرد فلسطيني. فأصبحت مصطلحات “احتلال” و”معاناة” و”مقاومة” من المصطلحات المتداولة على المستويات الشعبية والرسمية على حد سواء.

في ظلّ هذا الخيار، يبرز السؤال أمام “إسرائيل”، ماذا بعد؟ هل يمكن الاستمرار بحالة الاحتلال للأرض الفلسطينية إلى الأبد في ظل التغيرات الكبيرة التي حدثت على المستوى العالمي، والتي أفرزت مواقف واضحة رافضة للاحتلال؟ ولكن حتى الآن لا توجد إجابة عن هذا السؤال لدى “إسرائيل” التي تتبنّى سياسة “إدارة الأزمة” وليس حلها.

الخيار الرابع: تهجير الفلسطينيين
خيار التهجير هو الخيار المثالي بالنسبة للإسرائيليين، بل هدف طالما سعوا لتحقيقه. والمقصود بتهجير الفلسطينيين، التهجير الطوعي، لا القسري الذي يلقى معارضة شديدة، حتى من أقرب حلفاء “إسرائيل”.

ويرتبط التهجير بفكرة الإبقاء على الاحتلال للضفة وغزة، بحيث يتم تهجير الفلسطينيين تدريجيًا، وعلى مدى سنوات، إن لم يكن عشرات السنوات. والأمر بالطبع ليس بهذه البساطة، ولكن يتم تنفيذه من خلال خطط للتضييق على الفلسطينيين بحيث لا يجد المواطن، وبخاصة الشباب، فرصًا للعمل، ويضطر للسفر إلى الخارج. كما يتم التنسيق مع عدد من الدول الحليفة “لإسرائيل” لاستيعاب هؤلاء المهاجرين.

وقد عبّر قادة إسرائيليون بشكل علني عن رغبتهم بتحقيق هذا الهدف، رغم صعوبته، إلا أنهم يرونه خيارًا جيدًا وملائمًا للجميع. فالفلسطينيون سيعيشون برخاء في دول متقدمة، والإسرائيليون سيرتاحون من هذا العبء الذي أثقل كاهلهم منذ قيام دولة الاحتلال.

ويبدو أن عددًا من دول العالم تساوقت مع هذا الخيار. فمنذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول، أخذت الإعلانات تظهر بشكل متكرّر ومكثف على مواقع التواصل الاجتماعي للمتصفّح الفلسطيني، تعرض إمكانية الهجرة بسهولة إلى كندا، وغيرها من الدول، بما فيها بعض الدول العربية.

إلا أن هذا الخيار أيضًا يواجه إشكالات كثيرة، منها أنه يحتاج إلى وقت طويل، وأنه يجب حل المشكلات القائمة خلال السنوات الطويلة التي تسبق تحقق هذا الخيار. كما أنّ ما جرى في غزة يثبت أن الفلسطينيين بالعموم متمسّكون بأرضهم، ويرفضون الهجرة إلى الخارج.

خلاصة القول أن “إسرائيل” تعيش بالفعل أزمة وجودية، وأن خياراتها الإستراتيجية معقدة للغاية. والأمر يزداد سوءًا (بالنسبة لها بالطبع) مع بروز قيادات سياسية متطرفة، لا تفهم سوى لغة القتل والتدمير والتهجير، وليس لديها خيارات سياسية، ولا تعرف معنى التنازلات والتسويات، وغير ذلك من أدوات الحلول.

وينبغي القول إن المشكلة تكمن في تطرّف مواقف غالبية الشعب الإسرائيلي، وليس فقط تطرف أحزاب وشخصيات. فها هي الغالبية في إسرائيل تؤيد كل الإجراءات المتطرفة بحق الفلسطينيين، سواء قتل المدنيين، أو توسيع الاستيطان، أو غير ذلك من السياسات والإجراءات.

وهذا يعني أنه حتى لو افترضنا أن “المعتدلين” تصدّروا قيادة الدولة، فإنّهم سيبقون عاجزين عن اتخاذ أي خطوة للتقدم إلى حلول إستراتيجية. فحتى حزب العمل (المعتدل) الذي اتخذ سياسات مرنة للتعامل مع القضية الفلسطينية، والتي أفضت إلى توقيع اتفاقية أوسلو، فشل في تقديم الحد الأدنى من حقوق الشعب الفلسطيني.

“}]] 

المحتوى ذو الصلة